السبت، 1 سبتمبر 2018

السطح الداخلي لأجنحة الفراشات

يُشْهَد لفلاديمير نابوكوف بتأثيره في الأدبين.. التابع لروسيا والإنجليزي. ويَعرِف كثيرون أيضاً شغف ذلك الروائي الدائم بالفراشات، إلا أن إسهاماته البارزة في معرفة حرشفيات الأجنحة، وفي معرفة الأحياء العام لم تكن معروفة بصورة هائلة حتى وقت قريب.

لم يكن نابوكوف مرتفعِم حشرات هاوِيًا. لقد كان لست سنين يعتني بمجموعة الفراشات في متحف معرفة الحيوان المقارن بجامعة هارفارد في كمبريدج في ماساتشوستس، ونشر الكثير من الأوراق العلمية ـ التي ما تزال هامة حتى هذه اللحظة ـ في معرفة التصنيف (العلم المهتم بوصف وتصنيف الكائنات الحية). وقد مَهَّدَتْ ملاحظاته بخصوص الشكل الظاهري للفراشات لبحوث هامة في معرفة الأحياء التطورية، وتم تأكيد العديد من فرضياته المرتبطة بالجغرافيا الحيوية في السنين القليلة الفائتة. ويوضح كتاب «خطوط دقيقة» Fine Lines (جمع وتحرير: ستيفن بلاكويل، وكيرت جونسون) ضرورة إجراءات نابوكوف العلمية، ويتتبع أثرها في رواياته. 

واحد من ضرائب فلاديمير نابوكوف للسطح الداخلي لأجنحة الفراشات.
واحد من ضرائب فلاديمير نابوكوف للسطح الداخلي لأجنحة الفراشات.

Reproduced by permission of the V. Nabokov Estate/the Henry A. & Albert W. Berg Collection, New York Public Lib.


يبدأ الكتاب بعرض 154 رسمًا (ملونًا وغير ملون) من ضرائب نابوكوف، التي تُظْهِر تركيبات تشريحية دقيقة للفراشات. ويرجع أغلبها إلى أشكال أمريكية، وآسيوية، وأوروبية من القبيلة التصنيفية «بوليوماتيني» Polyommatini، المعروفة بـ«الزرقاوات»، وهي مجموعة نابوكوف المفضلة. تتبع هذا عشر نصوص لباحثين بارزين، منهم مرتفعِم الأحياء التطورية جيمس ماليت، وأمينة متحف الفراشات الجارية بهارفارد نعومي بيرس، والباحث المختص في حرشفيات الأجنحة روبرت بايل، موضِّحين التداخل بين العلم والفن في كتابات نابوكوف. ويَعرِض كتاب «خطوط دقيقة» الأثر الجَلِيّ للعلم في تطور نابوكوف الكاتب.

أتى مرسوم تصدير الكتاب بالرسوم موفَّقًا جدا؛ فهي تُظْهِر واحد من أكثر أهمية مكونات الإبداع عند نابوكوف، وهو اهتمامه البالغ بالتفاصيل، ووصفها بعناية فائقة. في رواياته، يلتقط نابوكوف ـ بسلاسة ـ التفاصيل المُهمَلة، والخيالات العابرة، والأفكار، ليصنع منها عالمًا متينًا، قوامه الملاحظة. قد يظهر شيءٌ ما تافهًا، أو خاصًّا، لكنه سوف يكون دائمًا ـ فيما يتعلق إليه ـ جديرًا بالتأمل. لقد حَلَّل في دراسته لعلم الحشرات النقاط الدقيقة التي لا تكاد تُرى على أجنحة الفراشات، الجديدة منها والقديمة؛ ليستقرئ ما وقع على الأرض قبل ملايين الأعوام. وبصرف النظر عن أن معرفة الأحياء القديمة لم يمده بأي بيانات، خمَّن نابوكوف بأنه تم استيطان أمريكا التي بالشمال، ثم الجنوبية بخمس موجات من الفراشات المهاجرة من آسيا (V. Nabokov Psyche 52, 1–61; 1945)، وهو التصور الذي أكَّده فحص الحمض النووي في أعقاب نحو 70 عامًا في واحدة من الدراسات (R. Vila et al. Proc. R. Soc. B 278, 2737–2744; 2011).

تُعَدُّ تلك «التنقيطية» pointillism أصعب الأمر الذي يظهر عليه الأمرن إذ إن مراكمة ملايين المكونات؛ لبناء اعتقاد عن شيء ما، أمرٌ قد ينتهي إلى بلبلة عارمة؛ حيث يجب أولًا فَهْم طبيعة تلك المكونات، وامتلاك التمكن من الاختيار من ضمنها. ولا يتشابه الرسم العلمي عديدًا في جوهره عن التصوير الفوتوغرافي، بتركيزه على صلب الموضوع، وإهماله التفاصيل غير اللازمة، وذلك هام في العلم، وفي الفن، على حاجزٍّ سواء، فلكليهما المقصد الرئيس ذاته؛ وهو الكشف عن جوهر الأشياء المجهول، أو غير المشهود. وتُعَدّ هذه واحدة من النقاط الرئيسية التي تَنَاوَلها كتاب «خطوط دقيقة».

إنّ العلم والفن لا يتواصلان مع عقولنا بالأسلوب ذاتها.. ففي العلم، تتعلق التمكن من إيصال الفكرة بصورة جيدة وبسيطة بالمهارات المخصصة، وبإمكان الجميع تقريبًا اكتساب هذه المهارات، في حين لا يتشابه الشأن في الفن. وتمتاز ضرائب نابوكوف بالدقة العلمية، لكنها مذهلة فنيًّا أيضًا، وتُظْهِر أن التكامل بين الشكل والمحتوى يوصل الأفكار الفنية بأسلوب رائعة. ومن هذا.. فإن الأفكار الرائعة تصبح مبتذلة، إذا افتقرت إلى البراعة الفنية.

لقد تضافرت الأسباب الشخصية والفنية والعلمية في حياة نابوكوف تضافرًا قويًّا. يصف واحد من كُتّاب النصوص التي ضمَّها الكتاب ـ وهو الكاتب العلمي دوريون ساجان ـ وضعية التواصل بين الطبيعة والفن عند نابوكوف، قائلًا: «إن العلم والفن ـ باعتبارهما مسارين مختلفين في الوجهة، متساوِيَين في الضرورة ـ وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يعبر عن عظمة الشخصية».

تصطبغ الكتابات الأدبية لنابوكوف بصبغة علمية، يسهب كتاب «خطوط دقيقة» في توضيحها. لقد كان نابوكوف بارعًا في استعمال النمازج والمجازات. وفي روايته «لوليتا»، (الناشر: أوليمبيا، 1955)، اشتق مثلًا اسم مدينة «ليبنجفيل» Lepingville من كلمة «ليبنج» Lepping، وهي تعبير دارج نحو صائدي الفراشات عن عملية مطاردتها، ونَحَتَ اسم «إلفينستون» Elphinstone من تحت الجنس التصنيفي Elphinstonia الموالي لجنس الفراشات البيضاء Euchloe. كما بَنَى الحبكة التامة تقريبًا لروايته «الصيادون المسحورون» Enchanted Hunters على نمازجٍ مرتبطة بالفراشات. ويرتبط اسم بطلة روايته «ديانا» بكل من إلهة الصيد العذراء، وأحد أشكال الفراشات Speyeria diana. ويكشف الباحث في ممارسات نابوكوف برايان بويد أن اسم الشخصية المحورية في المسرحية «إدوسا جولد» Edusa Gold مأخوذ من Colias edusa، وهو الاسم القديم الذي لا يزال معمولًا به لفراشةٍ يَغلب عليها اللون الأصفر، تُعرف هذه اللحظة باسم Colias croceus. وأستطيع أن أُضيف أن اسم أخت البطلة «إليكترا جولد» Electra gold مأخوذ من اسم الفراشة Colias electra، وهو الاسم غير المنتشر لنوع آخر من الفراشات الأفريقية الصفراء، التي تُعرف هذه اللحظة باسم Colias electo. وتتناسب مهارته في اشتقاق تلك الأسماء ـ التي أحياها من ضمن ركام الأسماء العلمية القديمة غير المستخدَمة ـ مع أجواء الغموض في تلك الحكاية المثيرة للخلاف.

لقد أعددتُ ذلك إعادة النظر للكتاب في متحف منزل نابوكوف في سانت بطرسبرج في روسيا. وهناك اكتشفت ـ بالاطلاع على نسخة أسرة نابوكوف من كتاب الزمان الماضي الطبيعي المُصَوَّر للفراشات والعثات البريطانية An Illustrated Natural History of British Butterflies and Moths، الذي أَلَّفَه إدوارد نيومان (الناشر: ويليام جليشر، 1870) ـ أن نابوكوف قام في طفولته بتلوين الصورة غير الملونة للفراشة الصفراء بحرص مذهلة. ويوضح ماهر ومتمرس معرفة الحيوان فيكتور فِت في كتاب «خطوط دقيقة» أن تركيز نابوكوف في طفولته على جَمْع الفراشات ورَسْمها زَوَّدَه بنوع خاص من الذاكرة المدرَّبة وقوة الملاحظة، إضافة إلى ذلك التركيز على التفاصيل الدقيقة.

يمكنه قليلون المزج بين السعي العلمي الجاد، وبين التألق الفني بشِقَّيْه ـ المشهود، واللفظي ـ خلطًا جميلًا وهادِفًا إلى ذلك الحد. ويساعدنا كتاب «خطوط دقيقة» في فَهْم تلك القدرة الإبداعية الاستثنائية، التي لا قِوَام لعِلْم جيد، ولا لفن حقيقي بدونها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كيف تقوم بعلاج حساسية بق الفراش في البيت؟

كيف تقوم بعلاج حساسية بق الفراش في البيت؟ بق الفراش أو السرير هو نوع من الحشرات التي تتغذى على الدم بواسطة عض الإنس أو بعض الحيوانات الأخر...